إصلاح المنظومة الصحية: تحليل شامل لورش ملكي يغير وجه الصحة بالمغرب
يقدم هذا المقال تحليلاً مفصلاً لورش إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب، انطلاقاً من التوجيهات الملكية، مروراً بتصريحات رئيس الحكومة عزيز أخنوش، وصولاً إلى النتائج الملموسة التي بدأ المواطن يشعر بها، مع استعراض الركائز الأساسية والتحديات المستقبلية.

في خضم التحولات الكبرى التي يعيشها المغرب، يبرز ورش إصلاح المنظومة الصحية كأحد أبرز المشاريع الاستراتيجية التي تحظى بمتابعة دقيقة على أعلى مستوى في الدولة. حين يؤكد رئيس الحكومة، السيد عزيز أخنوش، أن "إصلاح المنظومة الصحية يسير وفق توجيهات الملك والمواطن بدأ يلمس النتائج"، فإنه لا يطلق مجرد تصريح سياسي، بل يشير إلى حركة دؤوبة وعمل ميداني يهدف إلى إعادة بناء قطاع حيوي يمس حياة كل مغربي. في هذا المقال، سنتعمق في تفكيك هذا الورش الضخم، لنفهم فلسفته التي انطلق من رؤية ملكية سامية، ونستعرض ركائزه التشريعية والتنظيمية، ونحلل ما هي "النتائج" التي بدأ المواطن يلمسها فعلاً على أرض الواقع، دون إغفال التحديات الجسيمة التي لا تزال تواجه هذا التحول التاريخي.
أولًا: الرؤية الملكية: حجر الزاوية في بناء منظومة صحية جديدة
قبل الخوض في التفاصيل التقنية والتشريعية، من الضروري فهم أن هذا الإصلاح ليس وليد اللحظة أو مجرد رد فعل على أزمة عابرة، بل هو تجسيد لرؤية استراتيجية متكاملة أرسى دعائمها جلالة الملك محمد السادس. لقد شكلت الخطب الملكية المتتالية، خاصة تلك التي تلت جائحة كوفيد-19، خارطة طريق واضحة المعالم، حددت الأهداف الكبرى ورسمت معالم المغرب الصحي الجديد. هذه الرؤية ترتكز على مبادئ أساسية غير قابلة للمساومة:
- تعميم الحماية الاجتماعية: جعل الولوج إلى الرعاية الصحية حقاً أساسياً لكل المواطنين، وليس امتيازاً لفئة دون أخرى، عبر توسيع التغطية الصحية الإجبارية (AMO) لتشمل جميع المغاربة.
- تحقيق السيادة الصحية: بناء نظام صحي وطني قوي وقادر على مواجهة الأزمات الصحية المستقبلية، وتقليل الاعتماد على الخارج في المجالات الحيوية.
- الجودة والإنصاف: التأكيد على أن الإصلاح لا يهدف فقط إلى توسيع نطاق الخدمات، بل إلى تحسين جودتها بشكل جذري، وضمان توزيع عادل للموارد الصحية بين مختلف جهات المملكة، وبين المناطق الحضرية والقروية.
هذه التوجيهات الملكية لم تكن مجرد أمنيات، بل تحولت إلى التزام حكومي وبرلماني قوي، تُوِّج بإصدار القانون الإطار رقم 06.22 الذي يعتبر بمثابة الدستور المنظم لهذا الورش الإصلاحي الكبير.
ثانيًا: القانون الإطار 06.22: الركائز الأربع لإصلاح هيكلي عميق
يعتبر القانون الإطار المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية العمود الفقري للإصلاح. فهو لم يأتِ بتعديلات جزئية، بل وضع أسساً جديدة لإعادة هيكلة القطاع بالكامل. يقوم هذا القانون على أربع ركائز أساسية متكاملة:
1. حكامة جديدة لضمان الفعالية والنجاعة
أدرك المشرع أن أي إصلاح مالي أو تقني سيبقى محدود الأثر بدون تغيير جذري في طريقة تدبير القطاع. لذلك، نص القانون على إنشاء هيئات حكامة جديدة، أبرزها:
- المجموعات الصحية الترابية (GST): وهي مؤسسات عمومية على مستوى كل جهة، تتولى مسؤولية التخطيط والتنظيم والإشراف على العرض الصحي بكامله في الجهة (المستشفيات الجامعية، الجهوية، الإقليمية، والمراكز الصحية). الهدف هو كسر مركزية القرار في الرباط ومنح الجهات استقلالية أكبر في تدبير مواردها وفقاً لخصوصياتها.
- الهيئة العليا للصحة: مؤسسة مستقلة ستلعب دور "شرطي الجودة" في القطاع، حيث ستتولى مهمة التقييم الدوري للمؤسسات الصحية، واعتمادها، ووضع المعايير والمؤشرات التي تضمن جودة الخدمات المقدمة للمواطن.
2. تثمين الموارد البشرية: العصب الحساس للقطاع
لا يمكن الحديث عن نظام صحي فعال بدون أطباء وممرضين وتقنيين وإداريين محفزين ومؤهلين. لطالما عانى المغرب من هجرة الأدمغة في القطاع الصحي. لمعالجة هذا النزيف، نص القانون الإطار على ضرورة وضع نظام جديد للموارد البشرية يهدف إلى:
- تحسين الوضع المادي والمهني للعاملين في القطاع.
- إقرار وظيفة صحية عمومية تضمن مساراً مهنياً جذاباً.
- فتح المجال أمام الكفاءات الطبية الأجنبية والمغربية بالخارج للمساهمة في تعزيز القطاع، وفق شروط محددة.
3. تأهيل العرض الصحي: بنية تحتية في مستوى التطلعات
لتنزيل التغطية الصحية الشاملة، كان لابد من تأهيل البنية التحتية الصحية. رصدت الدولة ميزانيات ضخمة لتنفيذ برنامج واسع يشمل:
- إعادة تأهيل 1400 مركز صحي للقرب: بهدف جعلها البوابة الأولى للمواطن في مسار العلاج، وتقديم خدمات وقائية وعلاجية أساسية ذات جودة.
- بناء وتجهيز مستشفيات جامعية جديدة: في مدن كبرى مثل طنجة، أكادير، والرباط، لتعزيز العرض الصحي المتخصص وتقليل الضغط على المستشفيات الحالية.
- تحديث التجهيزات الطبية والبيوطبية: لضمان توفر تشخيص دقيق وعلاجات حديثة.
4. رقمنة القطاع الصحي: نحو طب المستقبل
تعتبر الرقمنة رافعة أساسية لتحديث القطاع. يهدف الإصلاح إلى إنشاء نظام معلوماتي مندمج يسمح بـ:
- إنشاء ملف طبي مشترك لكل مريض: يمكن الوصول إليه من قبل الأطباء المعالجين في أي مؤسسة صحية، مما يحسن التنسيق ويمنع تكرار الفحوصات.
- تطوير خدمات التطبيب عن بعد (Téléconsultation): لتقريب الخدمات من سكان المناطق النائية.
- إطلاق أنظمة إلكترونية لحجز المواعيد: لتنظيم تدفق المرضى وتقليل فترات الانتظار.
ثالثًا: النتائج الملموسة: هل بدأ المواطن يجني الثمار حقاً؟
عندما يتحدث رئيس الحكومة عن "نتائج ملموسة"، فإنه يشير إلى مجموعة من المؤشرات والتغييرات التي بدأت تظهر على أرض الواقع، والتي يمكن للمواطن أن يلاحظها في تجربته اليومية مع القطاع الصحي. من أبرز هذه النتائج:
- الولوج الفعلي للتغطية الصحية: الملايين من العمال غير الأجراء (الحرفيون، التجار، الفلاحون، أصحاب المهن الحرة) وأصحاب الدخل المحدود (المستفيدون سابقاً من راميد) أصبح لديهم اليوم رقم تسجيل في الضمان الاجتماعي وبطاقة "أمو" تمكنهم من استرداد مصاريف العلاج والأدوية وشراء الأدوية من الصيدليات بنسب تفضيلية. هذا تغيير جذري في حياة أسر لم تكن تملك أي تغطية صحية من قبل.
- تحسين ظروف الاستقبال: العديد من المراكز الصحية الأولية التي تم تأهيلها شهدت تحسناً ملحوظاً في البنية التحتية، وظروف النظافة، وطرق تنظيم المواعيد، مما يجعل تجربة المريض أكثر إنسانية.
- تقليص "الدفع المباشر" من جيب المواطن: بفضل تعميم "أمو"، انخفض العبء المالي المباشر على الأسر. فبدلاً من دفع كامل تكلفة العملية الجراحية أو الفحوصات الباهظة، أصبح المواطن المؤمن يدفع جزءاً يسيراً بينما يتكفل الصندوق بالباقي.
- توفر أدوية كانت نادرة: ساهم الإصلاح في تحسين سياسة تدبير الأدوية، خاصة تلك الموجهة للأمراض المزمنة والمكلفة، وجعلها أكثر توفراً في المستشفيات العمومية.
بالطبع، لا تزال هناك تفاوتات وتحديات، والتجربة تختلف من مدينة لأخرى ومن مؤسسة لأخرى، لكن الاتجاه العام يسير نحو تحسن تدريجي وملموس في الولوج إلى الخدمات الصحية.
رابعًا: التحديات الكبرى والآفاق المستقبلية
رغم الإنجازات الهامة، فإن طريق الإصلاح لا يزال طويلاً ومحفوفاً بالتحديات التي تتطلب نفساً طويلاً ومجهوداً متواصلاً. من أبرز هذه التحديات:
- الخصاص في الموارد البشرية: لا يزال المغرب يعاني من نقص حاد في عدد الأطباء والممرضين، خاصة في بعض التخصصات والمناطق النائية. ورغم الجهود المبذولة، فإن سد هذه الفجوة يتطلب سنوات.
- استدامة التمويل: تعميم التغطية الصحية وتأهيل البنية التحتية يتطلب ميزانيات ضخمة. ضمان استدامة تمويل هذا النظام على المدى الطويل يمثل تحدياً اقتصادياً كبيراً.
- تحقيق العدالة المجالية: ضمان أن المواطن في قرية نائية يحصل على نفس جودة الرعاية التي يحصل عليها المواطن في المدن الكبرى لا يزال هدفاً يتطلب الكثير من العمل.
- تغيير العقليات: يتطلب نجاح الإصلاح أيضاً تغييراً في سلوكيات المواطنين (احترام المواعيد، اتباع مسار العلاج المنسق) والعاملين في القطاع (التركيز على جودة الخدمة).
إن المستقبل واعد، شريطة الاستمرار بنفس العزيمة في مواجهة هذه التحديات، والتسريع في تفعيل جميع هيئات الحكامة الجديدة، خاصة الهيئة العليا للصحة، لضمان استمرارية الجودة والمراقبة.
خاتمة
إن ورش إصلاح المنظومة الصحية هو بحق ثورة هادئة وعميقة، تتجاوز كونها مجرد إجراءات إدارية لتلامس صميم العقد الاجتماعي الجديد الذي يسعى المغرب لبنائه تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك. تصريحات رئيس الحكومة تأتي لتؤكد أن عجلة الإصلاح تدور وأن آثارها الإيجابية بدأت تصل تدريجياً إلى المواطن. ورغم أن الطريق لا يزال طويلاً والتحديات قائمة، فإن الإرادة السياسية متوفرة والأسس التشريعية والتنظيمية قد وُضعت، مما يبعث على التفاؤل بمستقبل صحي أفضل لجميع المغاربة. نأمل أن يكون هذا التحليل قد قدم لك رؤية واضحة وشاملة حول هذا الموضوع الحيوي. لا تتردد في ترك تعليق أو مشاركة المقال لإثراء النقاش.
📌 مقالات مشابهة تهمك: